مراسل صحيفة "لموندو" الاسبانية خافيير اسبينوزا في سورية يروي مشاهداته في حمص ورحلة تهريبه بمساعدة الثوار للخروج من بابا عمرو
– نشرت صحيفة "ذي غارديان" البريطانية مقالا اليوم السبت تحت عنوان "المقاتلون حاولوا تهدئة الاطفال، ولكن فات الوقت وبدأت القذائف تنهمر"، يروي فيه الصحافي الاسباني خافيير اسبينوزا، مراسل صحيفة "لموندو" الاسبانية، كيف تمكن الثوار من تهريبه للخروج من حي بابا عمرو. وفي ما يلي نص المقال:
"بدت المسيرة التي ضمت عناصر مختلفة كما لو كانت حدثا من احداث اسبانيا في القرن السابع عشر كما وصفها الكاتب فرنسيسكودي كوفيدو. كان هناك رجل مصاب بجراح ولا يكسوه الا الملابس الداخلية، وقد غطت اللفافات ساقيه وراسه وذراعه، فكان يستخدم ذراعه ليمسك بجهاز التنقيط. لكنه يكاد لا يستطيع المشي على ساقيه. بعد ذلك جاء رجل يعرج، اصيب في ساقه، وهو يقفز او وهو محمول على ظهر صديق له. وكان هناك شاب مزقت الشظايا ساقه، ينقل على بطانية يمسك بها اخرون.
وهناك كان احمد الذي مزق صاروخ ذراعه وساقه يرتكز على محمد الذين جاهد لمقاومة الام الرصاصة التي اطلقها قناص على ظهره. واصيب ايضا الصحافيان بول كونروي وادي بوفيير، اللذان كانا ضمن هذا الفريق بالاضافة الى اثنين اخرين من المراسلين، كنت أحدهما.
بل ان السيارات التي كانت تنقلنا كانت اقرب ما تكون في طريقها الى ساحات الخردة اكثر من كونها تشارك في هذه المغامرة المجنونة. اما الشاحنات فقد خرقتها الرصاصات والشظايا. وكانت احداها ترتعش بسبب اطارها المخروق.
كنا خمسين او اكثر، وكان منا كثيرون معوقين بسبب جراحهم، نحاول التسلل خارجين من حي بابا عمرو المحاصر في مدينة حمص هربا من الهجوم الاخير للنظام السوري. كانت ليلة خطرة للمرور عبر خطوط الجيش السوري، وهو ما يؤكد مدى ما اصاب هؤلاء الناس من قنوط ويأس.
بدأت الرحلة في التاسعة مساء، وقد امتلأت الشاحنات بهؤلاء الذين يحاولون الفرار واندفعت في طرق مهجورة وظلام قاتم باقصى سرعة. سارت من دون اضواء، في محاولة لعدم تمكين القناصة من مشاهدتنا.
لقد عانى سكان بابا عمرو من الاعمال الوحشية لدرجة انه بالنسبة الى بعضهم الذين تمكنوا من العثور على مقعد بدا الامر مثيرا للدهشة. وانطلقت ضحكات مكتومة منهم لرؤية الصحافيين وهم يحاولون حماية رؤوسهم باستخدام الكومبيوتر المحمول. وقال احد رجال الميلشيا "رجاء اصمتوا". وكان من بينهم رجل ادرك المخاطر التي نواجهها بوضوح، ولجأ الى الصلاة طيلة الوقت.
لم يكن بالامكان مواصلة الرحلة كلها داخل السيارات. فكان علينا ان نسير بقية الرحلة على الاقدام. وفجأة اضاءت السماء، لا بد ان تكون قوات الحكومة قد سمعت الاصوات وبدأت في اطلاق النيران.
"انبطحوا ارضاً.. انهم القناصة".
وبدأت المجموعة في التفرق. معظمهم وجدوا مخبئا لهم في المباني المهدمة. اما من كانت اصابتهم خطيرة، فلم يكن بامكانهم الا ان ينبطحوا على الارض. وفي تلك الحالة، فان الانفجارات ظلت بعيدة عن منطقتنا، لكنها كانت لمحة من الفوضى المتوقعة.
صاح الاطفال المرعوبون اثناء سيرهم "ماما..ماما". وحاول مقاتلو الجيش السوري الحر تهدئة روعهم. لكن ذلك جاء متأخرا. اذ بدأ اطلاق النار فجأة، فيما احاطت بنا النيران. واضطرتنا دفقة من النيران الى الاختباء في الاشجار المنخفضة، بعدها تفرقت الجماعة بسبب وابل من الرصاص.
ركضنا عبر الحقول. وكانت الرصاصات تصفر مارة بنا. تبعت محمد واحمد الذي يبدو انه نسي الشظايا في ساقه. كان يقفز ويعرج بسرعة غير معقولة. وبعد تلك الموقعة كان يتندر بما حدث، فكان يقول "كيف امكنني بالله ان اركض بهذا الشكل، وانا الذي لا يستطيع حتى المشي؟".
اختبأ ثلاثتنا في أيكة من الاشجار، وظللنا صامتين لاكثر من ساعة فيما استمر اطلاق النار يرن على مقربة منا.
واحمد يبلغ من العمر 23 عاما وهو فلسطيني ولد في مخيم اللاجئين في حماة. انضم الى الانتفاضة منذ البداية، وقاتل في صفوف الجيش السوري الحر. وتفاخر بانه دمر 17 سيارة مصفحة قبل ان يصاب. ويأمل الان ان يصل الى لبنان وان يجد مستشفى لعلاجه من اصابته. اما زميله محمد فينتمي الى الكتيبة أو الوحدة ذاتها، وهو ايضا يريد الوصول الى لبنان.
كان ثلاثتنا قد تقطعت بهم السبل "ما الذي يمكننا ان نفعله؟ الى اين نتجه؟". اذ بعد الاشتباك بالنيران، عم صمت رهيب على المنطقة الريفية. والمكان الذي يخلو من الاصوات يكاد يكون مريعا مثل اطلاق النار.
لكن الحياة احيانا يحكمها الوعي. فقد امكنني ان ادرك للتو ان هذا هو الطريق الذي سلكته للوصول الى بابا عمرو، فما كان منهما الا ان طلبا مني ان اقودهما. وشيئا فشيئا بدأت الممرات الطينية تبدو مألوفة. سرنا في صف واحد خلف بعضنا البعض، وابطأنا المسيرة بسبب الخوف وجراح الاخرين. ولم يجد محمد بدا من الارتكاز على اكتافنا.
اخيرا وصلنا الى مجموعة من المساكن. وقد انتشرت الثورة في انحاء حمص. لم يكن امام احمد الا ان يدق احد الابواب، وعلى الفور خرجت مجموعة من الشباب لايجاد مكان آمن نأوي اليه. ولم تمض الا دقائق حتى بدأنا الفرار ثانية، اربعة منا على دراجة نارية واحدة.
الثوار يسيطرون على ساعات الظلام. اذ اوقفت دورية تابعة للجيش السوري الحر كانت تقطع الطريق، الدراجة النارية. واخذوا على عاتقهم مسؤولية نقل ثلاثتنا الى قرية بعيدا عن قوات بشار الاسد.
اما مستقبل بابا عمرو فقد تقرر بصورة نهائية. ويبدو ان الثورة قد سحقت هناك، لكنها سيتستمر في اماكن كثيرة اخرى. وفي القصير، جنوب حمص، يقول الثوار انهم يسيطرون على نصف البلدة. وينطلق السكان الى الخارج في ضوء النهار عندما تسكت القذائف. بل ان بامكانك ان تشتري الفلافل.
وقال احد اعضاء كتيبة الفاروق في الجيش السوري الحر "لديهم 70 دبابة و5 الاف جندي يحيطون بالمدينة، لكنهم لا يجرؤون على الدخول اليها". هذ الكتيبة تسيطر على منطقة المزارع المحيطة بحمص وكانت المسؤولة عن الوضع في حي بابا عمرو.
لكن هذا لم يكن ليعني ان بامكان اي شخص ان يدخل المدينة الا مسرعاً بجنون. وكانت تلك استراتيجية حكيمة. فاحدى السيارات التي اصيبت في وقت سابق لا تزال تحترق على الطريق.
ليس هناك نمط للحرب. لا شيء من ما تعلمته يمكنه ان يساعدك في التكهن بمن سيظل على قيد الحياة ومن سينضم الى الاحصاءات. في اليوم الذي فررت يه من حمص، قال الثوار ان 64 من الاشخاص قتلوا وهم يحاولون القيام بالشيء نفسه. وقالوا انهم كان من النساء والاطفال.
عاصم (36) وهو عامل انضم الى الثوار، لا يزال غير واثق اثناء حديثه الينا من ان سقوط بابا عمرو سيضع نهاية للانتفاضة.
وقال: "بشار لم يستلم الرسالة بعد. فانا مثلا كنت احبه عندما تولى مقاليد الحكم، وكنت اظن انه سيكون مختلفا عن والده". واضاف مشيرا الى جزء من خنصره "لو انه منحنا هذا القدر الضئيل من الحرية، لكنا التزمنا الصمت. ولكن عندما يتسبب في مقتل احد من افراد عائلتنا، فانه انما يزيد من رغبتنا في قتله".
– نشرت صحيفة "ذي غارديان" البريطانية مقالا اليوم السبت تحت عنوان "المقاتلون حاولوا تهدئة الاطفال، ولكن فات الوقت وبدأت القذائف تنهمر"، يروي فيه الصحافي الاسباني خافيير اسبينوزا، مراسل صحيفة "لموندو" الاسبانية، كيف تمكن الثوار من تهريبه للخروج من حي بابا عمرو. وفي ما يلي نص المقال:
"بدت المسيرة التي ضمت عناصر مختلفة كما لو كانت حدثا من احداث اسبانيا في القرن السابع عشر كما وصفها الكاتب فرنسيسكودي كوفيدو. كان هناك رجل مصاب بجراح ولا يكسوه الا الملابس الداخلية، وقد غطت اللفافات ساقيه وراسه وذراعه، فكان يستخدم ذراعه ليمسك بجهاز التنقيط. لكنه يكاد لا يستطيع المشي على ساقيه. بعد ذلك جاء رجل يعرج، اصيب في ساقه، وهو يقفز او وهو محمول على ظهر صديق له. وكان هناك شاب مزقت الشظايا ساقه، ينقل على بطانية يمسك بها اخرون.
وهناك كان احمد الذي مزق صاروخ ذراعه وساقه يرتكز على محمد الذين جاهد لمقاومة الام الرصاصة التي اطلقها قناص على ظهره. واصيب ايضا الصحافيان بول كونروي وادي بوفيير، اللذان كانا ضمن هذا الفريق بالاضافة الى اثنين اخرين من المراسلين، كنت أحدهما.
بل ان السيارات التي كانت تنقلنا كانت اقرب ما تكون في طريقها الى ساحات الخردة اكثر من كونها تشارك في هذه المغامرة المجنونة. اما الشاحنات فقد خرقتها الرصاصات والشظايا. وكانت احداها ترتعش بسبب اطارها المخروق.
كنا خمسين او اكثر، وكان منا كثيرون معوقين بسبب جراحهم، نحاول التسلل خارجين من حي بابا عمرو المحاصر في مدينة حمص هربا من الهجوم الاخير للنظام السوري. كانت ليلة خطرة للمرور عبر خطوط الجيش السوري، وهو ما يؤكد مدى ما اصاب هؤلاء الناس من قنوط ويأس.
بدأت الرحلة في التاسعة مساء، وقد امتلأت الشاحنات بهؤلاء الذين يحاولون الفرار واندفعت في طرق مهجورة وظلام قاتم باقصى سرعة. سارت من دون اضواء، في محاولة لعدم تمكين القناصة من مشاهدتنا.
لقد عانى سكان بابا عمرو من الاعمال الوحشية لدرجة انه بالنسبة الى بعضهم الذين تمكنوا من العثور على مقعد بدا الامر مثيرا للدهشة. وانطلقت ضحكات مكتومة منهم لرؤية الصحافيين وهم يحاولون حماية رؤوسهم باستخدام الكومبيوتر المحمول. وقال احد رجال الميلشيا "رجاء اصمتوا". وكان من بينهم رجل ادرك المخاطر التي نواجهها بوضوح، ولجأ الى الصلاة طيلة الوقت.
لم يكن بالامكان مواصلة الرحلة كلها داخل السيارات. فكان علينا ان نسير بقية الرحلة على الاقدام. وفجأة اضاءت السماء، لا بد ان تكون قوات الحكومة قد سمعت الاصوات وبدأت في اطلاق النيران.
"انبطحوا ارضاً.. انهم القناصة".
وبدأت المجموعة في التفرق. معظمهم وجدوا مخبئا لهم في المباني المهدمة. اما من كانت اصابتهم خطيرة، فلم يكن بامكانهم الا ان ينبطحوا على الارض. وفي تلك الحالة، فان الانفجارات ظلت بعيدة عن منطقتنا، لكنها كانت لمحة من الفوضى المتوقعة.
صاح الاطفال المرعوبون اثناء سيرهم "ماما..ماما". وحاول مقاتلو الجيش السوري الحر تهدئة روعهم. لكن ذلك جاء متأخرا. اذ بدأ اطلاق النار فجأة، فيما احاطت بنا النيران. واضطرتنا دفقة من النيران الى الاختباء في الاشجار المنخفضة، بعدها تفرقت الجماعة بسبب وابل من الرصاص.
ركضنا عبر الحقول. وكانت الرصاصات تصفر مارة بنا. تبعت محمد واحمد الذي يبدو انه نسي الشظايا في ساقه. كان يقفز ويعرج بسرعة غير معقولة. وبعد تلك الموقعة كان يتندر بما حدث، فكان يقول "كيف امكنني بالله ان اركض بهذا الشكل، وانا الذي لا يستطيع حتى المشي؟".
اختبأ ثلاثتنا في أيكة من الاشجار، وظللنا صامتين لاكثر من ساعة فيما استمر اطلاق النار يرن على مقربة منا.
واحمد يبلغ من العمر 23 عاما وهو فلسطيني ولد في مخيم اللاجئين في حماة. انضم الى الانتفاضة منذ البداية، وقاتل في صفوف الجيش السوري الحر. وتفاخر بانه دمر 17 سيارة مصفحة قبل ان يصاب. ويأمل الان ان يصل الى لبنان وان يجد مستشفى لعلاجه من اصابته. اما زميله محمد فينتمي الى الكتيبة أو الوحدة ذاتها، وهو ايضا يريد الوصول الى لبنان.
كان ثلاثتنا قد تقطعت بهم السبل "ما الذي يمكننا ان نفعله؟ الى اين نتجه؟". اذ بعد الاشتباك بالنيران، عم صمت رهيب على المنطقة الريفية. والمكان الذي يخلو من الاصوات يكاد يكون مريعا مثل اطلاق النار.
لكن الحياة احيانا يحكمها الوعي. فقد امكنني ان ادرك للتو ان هذا هو الطريق الذي سلكته للوصول الى بابا عمرو، فما كان منهما الا ان طلبا مني ان اقودهما. وشيئا فشيئا بدأت الممرات الطينية تبدو مألوفة. سرنا في صف واحد خلف بعضنا البعض، وابطأنا المسيرة بسبب الخوف وجراح الاخرين. ولم يجد محمد بدا من الارتكاز على اكتافنا.
اخيرا وصلنا الى مجموعة من المساكن. وقد انتشرت الثورة في انحاء حمص. لم يكن امام احمد الا ان يدق احد الابواب، وعلى الفور خرجت مجموعة من الشباب لايجاد مكان آمن نأوي اليه. ولم تمض الا دقائق حتى بدأنا الفرار ثانية، اربعة منا على دراجة نارية واحدة.
الثوار يسيطرون على ساعات الظلام. اذ اوقفت دورية تابعة للجيش السوري الحر كانت تقطع الطريق، الدراجة النارية. واخذوا على عاتقهم مسؤولية نقل ثلاثتنا الى قرية بعيدا عن قوات بشار الاسد.
اما مستقبل بابا عمرو فقد تقرر بصورة نهائية. ويبدو ان الثورة قد سحقت هناك، لكنها سيتستمر في اماكن كثيرة اخرى. وفي القصير، جنوب حمص، يقول الثوار انهم يسيطرون على نصف البلدة. وينطلق السكان الى الخارج في ضوء النهار عندما تسكت القذائف. بل ان بامكانك ان تشتري الفلافل.
وقال احد اعضاء كتيبة الفاروق في الجيش السوري الحر "لديهم 70 دبابة و5 الاف جندي يحيطون بالمدينة، لكنهم لا يجرؤون على الدخول اليها". هذ الكتيبة تسيطر على منطقة المزارع المحيطة بحمص وكانت المسؤولة عن الوضع في حي بابا عمرو.
لكن هذا لم يكن ليعني ان بامكان اي شخص ان يدخل المدينة الا مسرعاً بجنون. وكانت تلك استراتيجية حكيمة. فاحدى السيارات التي اصيبت في وقت سابق لا تزال تحترق على الطريق.
ليس هناك نمط للحرب. لا شيء من ما تعلمته يمكنه ان يساعدك في التكهن بمن سيظل على قيد الحياة ومن سينضم الى الاحصاءات. في اليوم الذي فررت يه من حمص، قال الثوار ان 64 من الاشخاص قتلوا وهم يحاولون القيام بالشيء نفسه. وقالوا انهم كان من النساء والاطفال.
عاصم (36) وهو عامل انضم الى الثوار، لا يزال غير واثق اثناء حديثه الينا من ان سقوط بابا عمرو سيضع نهاية للانتفاضة.
وقال: "بشار لم يستلم الرسالة بعد. فانا مثلا كنت احبه عندما تولى مقاليد الحكم، وكنت اظن انه سيكون مختلفا عن والده". واضاف مشيرا الى جزء من خنصره "لو انه منحنا هذا القدر الضئيل من الحرية، لكنا التزمنا الصمت. ولكن عندما يتسبب في مقتل احد من افراد عائلتنا، فانه انما يزيد من رغبتنا في قتله".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك مهم لنا